فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدنى مِن ثُلُثىِ الليل ونِصْفهُ وثُلُثهُ وطائِفةٌ مّن الذين معك} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
المراد من قوله: {أدنى من ثلثي الليل} أقل منهما، وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز وإذا بعدت كثر ذلك.
المسألة الثانية:
قرئ {ونِصْفهُ وثُلُثهُ} بالنصب والمعنى أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف (والثلث) وقرئ {ونِصْفهُ وثُلُثهُ} بالجر أي تقوم أقل من الثلثين والنصف والثلث، لكنا بينا في تفسير قوله: {قُمِ الليل إِلاّ قلِيلا} [المزمل: 2] أنه لا يلزم من هذا أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان تاركا للواجب وقوله تعالى: {وطائِفةٌ مّن الذين معك} وهم أصحابك يقومون من الليل هذا المقدار المذكور.
قوله تعالى: {والله يُقدّرُ الليل والنهار} يعني أن العالم بمقادير أجزاء الليل والنهار ليس إلا الله تعالى.
قوله تعالى: {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
الضمير في {أن لّن تُحْصُوهُ} عائد إلى مصدر مقدر أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة، ولا يمكنكم أيضا تحصيل تلك المقادير على سبيل الطعن والاحتياط إلا مع المشقة التامة، قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من قيام ما فرض عليه.
المسألة الثانية:
احتج بعضهم على تكليف مالا يطاق بأنه تعالى قال: {لّن تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوه، ثم إنه كان قد كلفهم به، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد صعوبته لا أنهم لا يقدرون عليه كقول القائل: ما أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه.
وقوله تعالى: {فتاب عليْكُمْ} هو عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر كقوله تعالى: {فتاب عليْكُمْ وعفا عنكُمْ فالن باشروهن} [البقرة: 187] والمعنى أنه رفع التبعة عنكم في ترك هذا العمل كما رفع التبعة عن التائب.
قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسّر مِن القرءان} وفيه قولان: الأول: أن المراد من هذه القراءة الصلاة لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، أي فصلوا ما تيسر عليكم، ثم هاهنا قولان: الأول: قال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء، وقال آخرون: بل نسخ وجوب ذلك التهجد واكتفى بما تيسر منه، ثم نسخ ذلك أيضا بالصلوات الخمس القول الثاني: أن المراد من قوله: {فاقرءوا ما تيسّر مِن القرءان} قراءة القرآن بعينها والغرض منه دراسة القرآن ليحصل الأمن من النسيان قيل: يقرأ مائة آية، وقيل: من قرأ مائة آية كتب من القانتين، وقيل: خمسين آية ومنهم من قال: بل السورة القصيرة كافية، لأن إسقاط التهجد إنما كان دفعا للحرج، وفي القراءة الكثيرة حرج فلا يمكن اعتبارها.
وههنا بحث آخر وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال: سقط عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل وصارت تطوعا وبقي ذلك فرضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه تعالى ذكر الحكمة في هذا النسخ فقال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة}.
واعلم أن تقدير هذه الآية كأنه قيل: لم نسخ الله ذلك؟ فقال: لأنه علم كذا وكذا والمعنى لتعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض للتجارة والمجاهدين في سبيل الله، أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم، وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم، وهذا السبب ما كان موجودا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {إِنّ لك في النهار سبْحا طوِيلا} [المزمل: 7] فلا جرم ما صار وجوب التهجد منسوخا في حقه.
ومن لطائف هذه الآية أنه تعالى سوى بين المجاهدين والمسافرين للكسب الحلال وعن ابن مسعود: (أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء) ثم أعاد مرة أخرى قوله: {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} وذلك للتأكيد ثم قال: {وأقيموا الصلاة} يعني المفروضة {وآتوا الزكاة} أي الواجبة وقيل: زكاة الفطر لأنه لم يكن بمكة زكاة وإنما وجبت بعد ذلك ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنيا.
قوله تعالى: {وأقْرِضُواُ الله قرْضا حسنا} فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه يريد سائر الصدقات وثانيها: يريد أداء الزكاة على أحسن وجه، وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعا للفقراء ومراعاة النية وابتغاء وجه الله والصرف إلى المستحق وثالثها: يريد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال.
ثم ذكر تعالى الحكمة في إعطاء المال فقال: {وما تُقدّمُواْ لأنفُسِكُمْ مّنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِند الله هُو خيْرا وأعْظم أجْرا واستغفروا الله إِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ}. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال ابن عباس: تجدوه عند الله خيرا وأعظم أجرا من الذي تؤخره إلى وصيتك عند الموت، وقال الزجاج: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا لكم من متاع الدنيا، والقول ما قاله ابن عباس.
المسألة الثانية:
معنى الآية: وما تقدموا لأنفسكم من خير فإنكم تجدوه عند الله خيرا وأعظم أجرا إلا أنه قال: هو خيرا للتأكيد والمبالغة، وقرأ أبو السمال {هو خير وأعظم أجرا} بالرفع على الابتداء والخبر، ثم قال: {واستغفروا الله} لذنوبكم والتقصيرات الصادرة منكم خاصة في قيام الليل {أنّ الله غفُورٌ} لذنوب المؤمنين {رّحِيمٌ} بهم، وفي الغفور قولان: أحدهما: أنه غفور لجميع الذنوب، وهو قول مقاتل والثاني: أنه غفور لمن يصر على الذنب، احتج مقاتل على قوله بوجهين الأول: أن قوله: {غفُورٌ رّحِيمٌ} يتناول التائب والمصر، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده عنه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل والثاني: أن غفران التائب واجب عند الخصم ولا يحصل المدح بأداء الواجب، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقا للمدح، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيِ اللّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ وطائِفةٌ مِن الّذِين معك} فيه ثلاث عشرة مسألة:
الأولى قوله تعالى: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ} هذه الآية تفسير لقوله تعالى: {قُمِ الليل إِلاّ قلِيلا نِّصْفهُ أوِ انقص مِنْهُ قلِيلا أوْ زِدْ عليْهِ} كما تقدّم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدّم.
{تقُومُ} معناه تصلّي و{أدنى} أي أقلّ.
وقرأ ابن السّميْقع وأبو حيْوة وهشام عن أهل الشام {ثُلُثيِ} بإسكان اللام.
{ونِصْفهُ وثُلُثهُ} بالخفض قراءة العامة عطفا على {ثُلُثيِ}؛ المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ كقوله تعالى: {علِم ألّن تُحْصُوهُ فتاب} فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه.
وقرأ ابن كثير والكوفيون {ونِصْفهُ وثُلُثه} بالنصب عطفا على {أدْنى} التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه.
قال الفراء: وهو أشبه بالصواب؛ لأنه قال أقلّ من الثلثين، ثم ذكر نفس القِلّة لا أقلّ من القلّة.
القُشيْري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه.
ويحتمل أنهم أُمروا بقيام نصف الليل، ورُخّص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث.
ويحتمل أنهم قدّر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نُسخ عنهم.
وقال قوم: إنما افترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكُّم.
الثانية قوله تعالى: {والله يُقدِّرُ الليل والنهار} أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحرّي والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ.
{علِم ألّن تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به.
وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل.
والأوّل أصح؛ فإنّ قيام الليل ما فُرض كله قطّ.
قال مقاتل وغيره: لما نزلت {قُمِ الليل إِلاّ قلِيلا نِّصْفهُ أوِ انقص مِنْهُ قلِيلا أوْ زِدْ عليْهِ} شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطيء، فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفّف عنهم؛ فقال تعالى: {علِم ألّن تُحْصُوهُ} و(أن) مخفّفة من الثقيلة؛ أي علم أنكم لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شقّ ذلك عليكم.
الثالثة قوله تعالى: {فتاب عليْكُمْ} أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به.
وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذْ عجزتم.
وأصل التوبة الرجوع كما تقدّم؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عُسْر إلى يُسْر.
وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحرّي، فخّفف عنهم ذلك التحرّي.
وقيل: معنى {والله يُقدِّرُ الليل والنهار} يخلقهما مقدّرين؛ كقوله تعالى: {وخلق كُلّ شيْءٍ فقدّرهُ تقْدِيرا} [الفرقان: 2].
ابن العربي: تقدير الخلقة لا يتعلّق به حكم، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف.
الرابعة قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسّر مِن القرآن} فيه قولان: أحدهما أن المراد نفس القراءة؛ أي فاقرؤوا فيما تصلّونه بالليل ما خفّ عليكم.
قال السُّديّ: مائة آية.
الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن.
وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كُتب من القانتين.
وقال سعيد: خمسون آية.
قلت: قول كعب أصح؛ لقوله عليه السلام: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من الُمقْنِطرين» خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو.
وقد ذكرناه في مقدّمة الكتاب والحمد لله.
القول الثاني: {فاقرءوا ما تيسّر} أي فصلّوا ما تيسّر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا؛ كقوله تعالى: {وقرآن الفجر} [الإسراء: 78] أي صلاة الفجر.
ابن العربي: وهو الأصح؛ لأنه عن الصلاة أخبر، وإليها يرجع القول.
قلت: الأوّل أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.
الخامسة قال بعض العلماء: قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه.
ثم احتمل قول الله عز وجل: {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا؛ لأنه أزيل به فرضٌ غيره.
والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره؛ وذلك لقوله تعالى: {ومِن الليل فتهجّدْ بِهِ نافِلة لّك عسى أن يبْعثك ربُّك مقاما مّحْمُودا} [الإسراء: 79] فاحتمل قوله تعالى: {ومِن الليل فتهجّدْ بِهِ نافِلة لّك} أي يتهجد بغير الذي فُرض عليه مما تيسّر منه.
قال الشافعيّ: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسُّنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.
السادسة قال القُشيريّ أبو نصر: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حقّ الأمة، وبقيت الفريضة في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب؛ كقوله تعالى: {فما استيسر مِن الهدي} [البقرة: 196] فالهدي لابد منه، كذلك لم يكن بُدٌّ من صلاة الليل، ولكن فُوّض قدره إلى اختيار المصلّي، وعلى هذا فقد قال قوم: فرْض قيام الليل بالقليل باقٍ؛ وهو مذهب الحسن.
وقال قوم: نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلا؛ وهو مذهب الشافعي.
ولعل الفريضة التي بقيت في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هي هذا، وهو قيامه، ومقداره مفوّض إلى خِيرتِه.
وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا فقوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} معناه اقرؤوا إن تيّسر عليكم ذلك، وصلّوا إن شئتم.
وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرّر في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضا، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه.
وقوله: {نافِلة لّك} محمول على حقيقة النفل.
ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة؛ كقوله تعالى: {أقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78]، وقوله: {فسبحان الله حِين تُمْسُون وحِين تُصْبِحُون} [الروم: 17]، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوّع.
وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: {ومِن الليل فتهجّدْ بِهِ نافِلة لّك} والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللأمة، كما أنّ فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يا أيها المزمل قُمِ الليل} كانت عامة له ولغيره.
وقد قيل: إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة، ونسخت بالمدينة؛ لقوله تعالى: {علِم أن سيكُونُ مِنكُمْ مرضى وآخرُون يضْرِبُون فِي الأرض يبْتغُون مِن فضْلِ الله وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ الله}، وإنما فرض القتال بالمدينة؛ فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى: {ومِن الليل فتهجّدْ بِهِ نافِلة لّك} [الإسراء: 79].
وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ} وجوب صلاة الليل.
السابعة قوله تعالى: {علِم أن سيكُونُ مِنكُمْ مرضى} الآية؛ بيّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلْق منهم المريض، ويشّق عليهم قيام الليل، ويشقّ عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفّف الله عن الكل لأجل هؤلاء.
و(أن) في {أنْ سيكُونُ} مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنه سيكون.
الثامنة سوّى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله.
وروي إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وآخرُون يضْرِبُون فِي الأرض يبْتغُون مِن فضْلِ الله وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ الله}».
وقال ابن مسعود: أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء.
وقرأ {وآخرُون يضْرِبُون فِي الأرض} الآية.
وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحبّ إليّ من الموت بين شعبتي رحْلِي، ابتغي من فضل الله ضاربا في الأرض.
وقال طاوس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حِنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بِعِ الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غدٍ؛ فوافق سعة في السعر؛ فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدّق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا عليّ ولا لي.
ويروي أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد، فافتقده ابن عمر، فمشي إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه؛ فلقيه له: يا بني! مالك وللطعام؟ فهلاّ إبلا، فهلاّ بقرا، فهلاّ غنما! إن صاحب الطعام يحب المحْل، وصاحب الماشية يحب الغيث.
التاسعة قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} أي صلّوا ما أمكن؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدّم.
قال ابن العربي وقد قال قوم: إن فرض قيام الليل سُنّ في ركعتين من هذه الآية؛ قاله البخاريّ وغيره، وعقد بابا ذكر فيه حديث.
«يعقِد الشيطانُ على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقد، يضرب على كل عُقْدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عُقْدة، فإن توضأ انحلت عُقْدة، فإن صلّى انحلت عُقده كلّها، فأصبح نشيطا طيّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» وذكر حديث سمُرة بن جُنْدُب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرؤيا قال: «أما الذي يُثْلغ رأسُه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفُضه، وينام عن الصلاة المكتوبة» وحديث عبد الله بن مسعود قال: «ذكر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كلّه فقال: ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه».
فقال ابن العربيّ: فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة؛ فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له، وتسقط الدعوى ممّن عيّنه لقيام الليل.
وفي الصحيح واللفظُ للبخاري: قال عبد الله بن عمرو: وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» ولو كان فرضا ما أقره النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذمّ، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: «كان الرجل في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصّها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاما شابّا عزبا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطويّة كطيّ البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار.
قال: ولقينا ملك آخر، فقال لي: لم تُرعْ.
فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلّي من الليل، فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلا»
؛ فلو كان ترْك القيام معصية لما قال له الملك: لم تُرعْ.
والله أعلم.
العاشرة إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله: {فاقرءوا ما تيسّر مِن القرآن}؛ {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة؛ فقال مالك والشافعيّ: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدّره أبو حنيفة بآية واحدة، من أيّ القرآن كانت.
وعنه ثلاث آيات؛ لأنها أقلّ سورة.
ذكر القول الأوّل الماورديّ والثاني ابن العربيّ.
والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعيّ، على ما بيّناه في سورة (الفاتحة) أوّل الكتاب والحمد لله.
وقيل: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة؛ قال الماورديّ: فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب.
وهذا قول الأكثرين؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه.
الثاني أنه محمول على الوجوب؛ ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه؛ لأن حِفظ القرآن من القُرب المستحبة دون الواجبة.
وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال: أحدها جميع القرآن؛ لأن الله تعالى يسره على عبادِه؛ قاله الضحاك.
الثاني ثلث القرآن؛ حكاه جوبير.
الثالث مائتا آية؛ قاله السُّديّ.
الرابع مائة آية؛ قاله ابن عباس.
الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة؛ قاله أبو خالد الكناني.
الحادية عشرة قوله تعالى: {وأقِيمُواْ الصلاة} يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها.
{وآتُواْ الزكاة} الواجبة في أموالكم؛ قاله عكرمة وقتادة.
وقال الحارث العُكْلي: صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك.
وقيل: صدقة التطوّع.
وقيل: كل أفعال الخير.
وقال ابن عباس: طاعة الله والإخلاص له.
الثانية عشرة قوله تعالى: {وأقْرِضُواُ الله قرْضا حسنا} القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيّب.
وقد مضى في سورة (الحديد) بيانه.
وقال زيد ابن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل.
وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.
الثالثة عشرة قوله تعالى: {وما تُقدِّمُواْ لأنفُسِكُمْ مِّنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِند الله} (البقرة).
وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيْسا يعني تمرا بلبن فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه.
فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري ما هو.
وكأنه تأوّل {وما تُقدِّمُواْ لأنفُسِكُمْ مِّنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِند الله هُو خيْرا} أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشّح والتقصير.
{وأعْظم أجْرا} قال أبو هريرة: الجنة؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجرا؛ لإعطائه بالحسنة عشرا.
ونصب {خيرا وأعْظم} على المفعول الثاني ل {تجِدُوهُ} و{هو}: فصل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الإعراب.
و{أجْرا} تمييز.
{واستغفروا الله} أي سلوه المغفرة لذنوبكم {إِنّ الله غفُورٌ} لما كان قبْل التوبة {رّحِيمٌ} لكم بعدها؛ قاله سعيد بن جبير.
ختمت السورة والحمد لله. اهـ.